Press Releases

كلمتي امام رئيس الوزراء

شَرَفَني تَبَلِّيَةُ الدَّعْوَةِ لِلْمُشارَكَةِ في اِفتِتَاحِ مَعْرِضِ صُورِ “خَمْسُونَ في خَمْسِينَ”، هِيَ أَعْوامٌ اتَّشَحَتْ بِالسَّوَادِ فَكَانَتْ مَرْحَلَةً طُوِيَتْ وَلَمْ تُطَوَّ مَعَهَا أَوْجَاعُ الذِّكْرَيَاتِ المُؤلِمَة. تَنْذَكِرُ وما تَنْعَادُ.

عَندما يُطْرَحُ سُؤالٌ: مَا هُوَ السِّجْنُ؟ أَجِيبُ: إِنَّهُ الحِرْمَانُ التَّامُّ مِنْ امتِلاكِ الوَقْتِ، وَالزَّمَنِ، وَأَمَاكِنِ العَيْشِ. إِنَّهُ مَا نَحْتَفِظُ بِهِ مِنْ ذِكْرَيَاتٍ، وَصُورٍ تَبْقَى مَرْتَبِطَةً أَمَاكِنَهَا في عُقُولِنا، تَعِيشُ بَدَاخِلِنا. إِنَّهُ أَنِينُ الأرواحِ، وَأَصْواتُ الاستغاثةِ، الَّتي مَلَأَتِ السُّجُونَ السُّوَرِيَّةَ.

هُنَاكَ، عَلَى بَوَابَةِ سِجْنِ تَدْمُرَ، كُتِبَ: “الداخِلُ مَفْقُودٌ، وَالخَارِجُ مَوْلُودٌ”. وُلِدْتُ وَعُدْتُ مِنْ جَدِيدٍ، مِنْ أَجْلِ تَحْقِيقِ حُرِّيَتِي، عَقَدْتُ النِّيَّةَ وَالعَزْمَ عَلَى مُتَابَعَةِ قَضِيَّةِ المُعْتَقَلِينَ اللُّبْنَانِيِّينَ في السُّجُونِ السُّوَرِيَّةِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ عَالِيَاً عَبْرَ مَنَابِرِ لُبْنَانِيَّةٍ وَأَجْنَبِيَّةٍ وَالبَوْحِ وَالإفراجِ عَنْ الذِّكْرَيَاتِ المَدْفُونةِ في أَعْمَاقِي. عُدْتُ بِالذَّاكِرَةِ إِلَى الأَسْرَارِ الَّتي خَزَّنْتُها وَأَوْدَعْتُها عند حِيطَانِ زَنْزَانَتي.

لَمْ يَكُنْ إِعادَةُ الغَوْصِ في ذِكْرَيَاتِي النَّائِمَةِ وَتَرْتِيبُهَا سَهْلاً، بَلْ كَانَ عَمَلِيَّةً مُعَقَّدَةً وَمُؤلِمَةً. إِنَّهَا مُعَانَاةُ القَهْرِ، وَالظُّلْمِ، وَالخَوْفِ، وَالرُّعْبِ، وَالْمَرَضِ، وَالْعَزْلَةِ، وَالجُوعِ. السِّجْنُ السِّيَاسِيُّ هُوَ انكِسَارٌ، فَالروحُ مَحطُمَةٌ وَمُشتَّتَةٌ، حَزينَةٌ وَمُظْلِمَةٌ وَمُحْبَطَةٌ وَمَشْبَعَةٌ بِالذُّلِّ.

أَمَّا التَّعذيبُ، فَهُوَ يَوْمِيٌّ وَمِزَاجِيٌّ. بَعْضٌ مِنْ أَشْكَالِ التَّعذيبِ الَّتي تَعَرَّضْنَا لَهَا: الكُرْسِيُّ الأَلَمَانِيُّ، الْبَلَانْكُو، بِسَاطُ الرِّيحِ، الصَّعْقُ الكَهْرَبائيُّ، الشَّبَحُ، غَسْلُ الرَّأْسِ في بُولِ السَّجَّانِ، لَحْسُ أَحْذِيَةِ السَّجَّانِينَ وَتَنْظِيفُهَا، وَإِجْبارُنَا عَلَى الشُّرْبِ مِنَ الْمِيَاهِ الْمُلَوَّثَةِ. الطَّعَامُ كَانَ قَلِيلًا جِدًّا، مَمْزُوجًا بِالْحَشَرَاتِ، وَأَحْيَانًا مَعَ بُولِ السَّجَّانِ، فَقَطْ لِنَبْقَى أَحْيَاءً. كُنَّا نُضْرَبُ، نُشْتَمُ، وَتُشْتَمُ أُمَّهَاتُنَا وَأَعْرَاضُنَا، وَيُطْلَبُ مِنَّا وَصْفُ أَجْسَادِ نِسَائِنَا لِيُشْبِعَ هَذَا الْجَلاَّدُ الْحَقِيرُ شَهْوَتَهُ بِالْوَصْفِ.

أَتَذَكَّرُ، كَيْفَ يُمْكِنُ لِلذَّاكِرَةِ أَنْ تَنْسَى، فَالَّليَالِي كَانَتْ تَمْتَلِئُ بِرَائِحَةِ رُفَاتِ رِفَاقِنَا الْمَدْفُونِينَ في مَقَابِرَ جَمَاعِيَّةٍ حَوْلَ جَحِيمِ سِجْنِ تَدْمُرَ. أَلْفَ ذِكْرَياتٍ تَتَسَارَعُ إِلَى السَّطْحِ لِتَخْرُجَ إِلَى العَلَنِ، كُلُّهَا شَنِيعَةٌ وَمُؤلِمَةٌ، مَشْبَعَةٌ بِالكَرَاهِيَةِ وَالْحِقدِ عَلَى هَذَا النِّظَامِ الأسَدِيِّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الاستِئْصَالَ إِلَى الأَبَدِ.

إِنَّ سُوءَ المُعَامَلَةِ وَالتَّعذيبَ وَالإِسَاءَةَ الَّتِي تَعَرَّضْنَا لَهَا عَلَى يَدِ أَجْهُزَةِ أَمْنِ النِّظَامِ السُّورِيِّ لَا يُمكنُ تَصْدِيقُهُ. الجَلَّادُونَ اخْتَارُوا لَنَا مَرْتَبَةً دُونَ مَرْتَبَةِ الْإنْسَانِ، نُضْرَبُ وَنُجَلَدُ بِأَسَالِيبِهِمُ الغَرِيبَةِ وَعَلَى مِزَاجِهِمُ الْوَحْشِيِّ. لِمَاذَا تُجَرَّدُ مِنْ إنْسَانِيَّتِكَ دُونَ حَقِّ الْمَعْرِفَةِ؟ لِمَاذَا يَخْتَفِي اسْمُكَ وَيُصْبِحُ مُجَرَّدَ رَقْمٍ في سَجِلَّاتِهِمْ؟ وَتُوضَعُ إنْسانِيَّتُكَ دَاخَلَ مِلَفِّكَ وَيُقْفَلُ المحضَرُ، مُتَجَاهِلَةً كِيَانَكَ وَوُجُودَكَ.

بِنَاءً عَلَى أَوَامِرِ الرَّئِيسِ الْمُفَدَّى حَافِظِ الْأَسَدِ مُنِعَ دُخُولُ اللَّهِ إِلَى سِجْنِ تَدْمُرَ، فَلَا تَسْتَنْجِدُوا بِاللَّهِ فَهُوَ لَا يَجْرَأُ عَلَى الدُّخُولِ. هَذَا مَا قَالَهُ لَنَا السَّجَّانُ يَوْمَ دُخُولِ مُعْتَقَلِ تَدْمُرَ اللَّعِينِ، حَاوَلْتُ اللُّحَاقَ بِالمَوْتِ مِرَارًا، لَكِنَّهُ دَائِمًا مَا هَرَبَ مِنِّي.

الْعَوْدَةُ مِنْ جَهَنَّمَ بَعْدَ 13 عَامًا إِلَى مَنْزِلِكَ، وَتَلْتَقِي بِعَائِلَتِكَ، فَلَا تَتَعَرَّفُ عَلَى بَنَاتِكَ، وَتَفْقِدُ الْغِرْيَزَةَ الأَبَوِيَّةَ، وَتَسْأَلُ: “مَنْ مِنكُمْ هِيَ هِبَةُ، وَمَنْ نَدَى، وَمَنْ نَانْسِي؟”. أَنْ تَسْأَلَ عَنْ أُمِّكَ فَتَكْشِفُ أَنَّهَا قَدْ مَلَّتِ الاِنتِظَارَ، وَتَوَفَّتْ. تَقِفُ حِينَها حَائِرًا، لَا تَجْرَأُ عَلَى طَرْحِ الأَسْئِلَةِ عَنْ مَعَارِفِكَ وَأَحَبَّائِكَ، خَوْفًا مِنْ جَوَابٍ مَجْهُولٍ.

تَكْشِفُ حُرُوبًا وَأَحْدَاثًا مَحَلِّيَّةً وَدُوَلِيَّةً حَدَثَتْ وَأَنْتَ مُعَزُولٌ عَنْ الْعَالَمِ، فَتَرَى أَنَّ عَقْلَكَ لَا يُسْتَطِيعُ اسْتِيعَابَ ذَلِكَ، وَعِنْدَمَا تَعُودُ مِنْ جَهَنَّمَ إِلَى الْحُرِّيَةِ، لَا تَجِدُ أَيَّةَ رِعَايَةٍ طِبِّيَّةٍ أَوْ اجْتِمَاعِيَّةٍ، لَا مِنْ دَوْلَتِكَ، وَلَا مِنْ جَمَعِيَّاتٍ مَحَلِّيَّةٍ أَوْ دُوَلِيَّةٍ. بَقِيتُ مُهْمَلًا وَمُنْسًى، إِلَّا مِنْ مُخَابِرَاتٍ تُجبرنا عَلَى زِيَارَتِهَا وَتَقْدِيمِ تَقَارِيرِنَا أُسْبُوعِيًّا.

بَيْنَمَا رِفَاقُنَا المُعْتَقَلُونَ في السُّجُونِ الإِسْرَائِيلِيَّةِ، تَلَقَّتْ مُسَاعَدَاتٍ مِن كُلِّ حَدَبٍ وَصَوْبٍ، خَاصَّةً مِنَ الدَّوْلَةِ الَّتِي لَا تَرَى إِلَّا بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ. قُدِّمَتْ لَهُمُ الْوَظَائِفُ وَالتَّعَوِيضَاتُ وَالرِّعَايَةُ الصِّحِّيَّةُ، فِي حِينَ أَنَّنَا تُرِكْنَا مَنْبُوذين
مُهَمَّشِينَ في العُزْلَةِ. فَمَا الفَرْقُ بَيْنَنَا؟ هُم كَانُوا سُجَنَاءَ لَدَى دَوْلَةٍ مُعَادِيَةٍ مُحْتَلَّةٍ، وَنَحْنُ كُنَّا مُعْتَقَلِينَ لَدَى دَوْلَةٍ شَقِيقَةٍ مُحْتَلَّةٍ، لَا فَرْقَ بَيْنَ إِحْتِلَالٍ وَآخَرَ، الإِحْتِلَالُ وَاحِدٌ.

في الختامِ لَا يَسَعُنِي إِلَّا أَنْ أَذْكُرَ بِنَجَاحِ فِيلْمِ “تَدْمُرَ” الَّذِي حَصَدَ خَمْسَ جَوَائِزَ عَالَمِيَّةً، وَفِيهِ أَعَدْنَا إِحْيَاءَ عَذَابَاتِنَا فِي أَقْبِيَةِ السُّجُونِ السُّورِيَّةِ، وَأَذْكُرُ بِفَخْرٍ وَإِعْتِزَازٍ أَنَّهُ مِنْ إِخْرَاجِ الشَّهِيدِ الْمَغْدُورِ لُقْمَان سَلِيم وَزَوْجَتِهِ مُونِيكَا بُورْغْمَان كِتَابِي “عَائِدٌ مِنْ جَهَنَّمَ” بِطَبْعَتِهِ الْخَامِسَةِ، إِضَافَةً إِلَى مَجْمُوعَةِ كُتُبٍ “الْخَارِجُونَ مِنَ الْقُبُورِ السُّورِيَّةِ” وَمَسْرَحِيَّةِ “الْكُرْسِيِّ الْأَلْمَانِيِّ” وَمَسْرَحِيَّةِ “بِلَا عُنْوَانٍ” مِن تَمْثِيلِنَا، وَسَاعَدَ فِي التَّمْوِيلِ، صِفْرَ خَوْفٍ لُقْمَان سَلِيم وَزَوْجَتِهِ مُونِيكَا بُورْغْمَان.

وَفِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ، يَا دَوْلَةَ الرَّئِيسِ، لَا يَزَالُ لَمْ يُعَوَّضْ عَلَيْنَا. هُنَاكَ مَشْرُوعُ قَانُونٍ فِي أَدْرَاجِ الْمَجْلِسِ النِّيَابِيِّ يَشْمَلُنَا، وَيُسَاوِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُعْتَقَلِي الإِحْتِلَالِ الإِسْرَائِيلِيِّ. أَقَرَّهُ مَجْلِسُ الْوُزَرَاءِ عَامَ ٢٠٠٠ تَحْتَ الرَّقْمِ 364، الَّذِي يَقْضِي بِمَنْحِ تَعَوِيضَاتٍ أَوْ مَعَاشَاتٍ تَقَاعُدٍ لِلْأَسْرَى الْمُحَرَّرِينَ مِنَ السُّجُونِ الإِسْرَائِيلِيَّةِ.

عَلَى رَأْسِ الْجُمْهُورِيَّةِ رَئِيسٌ يَعْرِفُ الْحَقَّ وَيُؤْمِنُ بِالْعَدَالَةِ، وَرَئِيسُ مَجْلِسِ وَزَرَاءِ، الْعَدَالَةُ لَعِبُهُ، أُنَاشِدُكُمْ بِاسْمِ كُلِّ الْمُعْتَقَلِينَ وَالْمَخْفِيِّينَ قَسْرًا فِي سُورِيَا، الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالشُّهَدَاءِ، أَنْ تُنفِّذُوا الْقَانُونَ.

عِظَامُ رِفَاقِنَا فِي الْمَقَابِرِ السُّورِيَّةِ الْجَمَاعِيَّةِ تَسْتَغِيثُ كَيْ تَسْتَرْجِعُونَهَا لِتُدْفَنَ وَتَرَاحَ فِي مَقَابِرِ عَوَائِلِهَا.

بِاسْمِي وَبِاسْمِ رِفَاقِي الْمُحَرَّرِينَ مِنَ السُّجُونِ السُّورِيَّةِ وَالْمَخْفِيِّينَ قَسْرًا وَلَمْ يَعُودُوا أَتَوَجَّهُ بِالشُّكْرِ لِكُلِّ الْحَاضِرِينَ مِنْ مَسْؤُولِينَ وَمُنَظِّمِينَ، وَنَتَمَنَّى أَنْ يَصِلَ صَدَى صَوْتِنَا رَأْفَةً بِالْأُمَّهَاتِ الثَّكْلَى الَّتِي تَنْتَظِرُ مَعْرِفَةَ مَصِيرِ أَبْنَائِهَا.
ظل من

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button