Uncategorized

طفل معتقل يشاركني زنزانتي

في فترة التحقيق الأولى، كما هو معتاد، بقيت وحيدًا في زنزانتي، لا يشاركني سجين آخر كي لا أتعلم منه أو يعلمني ماذا أقول للمحقق. كنت في حيرة من أمري، أواجه مصيري المظلم بوجه متجعد، وأندب حظي الذي أوقعني بين أيديهم القذرة وقلوبهم المتوحشة. أنا بريء مما يُنسب إليّ من تهم باطلة، زُعم أنني تعاملت مع العدو وقتلت جنودًا سوريين في الحرب الأهلية في لبنان، ولكن كل ذلك كان كذبًا وافتراءً.

تمر الأيام ببطء، كأن الزمن توقف، وكأن الساعة توقفت عن الدوران، بدأوا يعاقبونني بعقوبات قاسية، فوقفوا عن إطعامي، ثم عن تزويدي بالماء. في تلك الزنزانة الباردة، مضت أربعة أيام دون أن أذوق خبزًا، ويومين دون قطرة ماء، حتى إنني لم أعد أستطيع أن أميز بين الجوع والعطش، أصبحت أريد فقط أن أتبول، لكن السجان بجانبي يمنعني، لا يسمح لي بغسل يديّ كي لا أبلّل فمي بنقطة ماء.

أعود إلى وحدتي، أنتظر فرج الله، أعتدت على الجوع وكنت قد تصالحت مع البرد، لكنني لم أكن أستطيع تحمل ألمي ولا وحدتي الطويلة. فجأة، فتح باب زنزانتي ودخل طفل صغير، لا يتجاوز عمره الثالثة عشرة، يبكي بكاءً متواصلًا، دون توقف، وكأنه يصرخ من عمق الألم. أُغلق الباب بقوة، ووُضع القفل الحديدي، فارتجف قلبي من الفزع، وكاد يخرج من صدري.

وضعت يدي على رأس زميلي الجديد، وإذا به يصفع وجهي بكل قوته، قائلاً بصوت متهدج: “اتركني! اتركني!”، فقبلت صفعةه بابتسامة حزينة، وقلت له: “يا صديقي، أنا أيضًا سجين مثلك، لا تخف، أنت مثل ابنيوأنا لبناني.” قال لي بلهجة مليئة بالخوف: “نعم، أنا سوري.”، وهدأت قليلاً وكأنه قرأ خوفي، وأدركت أنه ملزم أن يكون صديقي في هذا السجن المظلم.

بعد قليل، عرفت منه أنه تم القبض عليه بتهمة الجرم المشهود، وأنه كان يحمل معه عشرة قنابل يدوية، وأنه وجدها بجانب حاوية قمامة. بالطبع، لم تصدق المخابرات ما قاله، فتم تعذيبه كأنه رجل بالغ، حتى انهارت قواه من شدة التعذيب والعذاب الذي رأيته على وجهه الصغير.

نسيتُ آلامي، وجوعي، وعطشي، وكل أوجاعي، عندما رأيته يتلوى من الألم. لم أتمكن من المساعدة، إلا أنني رأيته يقترب مني، وكان غير قادر على اسناد جسده إلى الحائط، إذ كانت ظهره مليئة بحروق إطفاء السجائر، ورجلاه متورمتان بشكل لا يُصدق، ووجهه محمرٌ بالرضوض. ما أصابه؟ لماذا هو بهذا الشكل؟ وما زلت أعاني من آثار ما رأيته، فهو يشبهني تمامًا.

لم يكن معي أي قطعة قماش لأجفف دمه أو لأمسح دموعه، لا قطنة ولا ماء. مزقت جيب بنطالي وبدأت في مسح وجهه الممتلئ بالدماء والدموع، مستخدمًا دموعه كوسيلة مطهر لجروحه. تلاشى وجهه، وهدأ واستسلم ليديّ رغم ألم الجراح، وكأنه يطمئنني بصمت. شعرت بعجز كامل عن النظر إليه، وكان يمد أصابعه ليشير بشيء، كأنه يريد أن يقول شيئًا، همس لي بصوت متهدج: “ما فهمت شو عم يقول“.

بدت عليه الرغبة في أن يبلّل حلقه بقطرة ماء، وقلت له بصوت ضعيف: “والله، ما عندي أكل ولا ماء، وأنا مثلك، أكاد أموت من العطش والجوع.” هز رأسه نافيًا، وبدأ يبكي قليلاً، ومسح عينيه بيده، ثم قال: “بدي أمي.”، وبدأ ينحب ويشهق، وكأنه يستغيث بي، يطلب مني أن أتحمل مسؤوليته في إحضار أمه، في هذا الجحيم.

كل ما استطعت فعله هو أن أُمسك بيديه الصغيرة، وأبكي معه، وتذكرت أنني أيضًا أريد أمي، وأحسست أنني أواجه نفس الألم، نفس الانتظار، نفس الوجع، في زنزانة العذاب هذه، حيث لا مفر، ولا أمل إلا بالله.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button