من عذاب الاسد

كان النظام السوري المتعجرف الظالم، القبيح في جبروته، ينكر جهلًا وجود أي معتقل سياسي لبناني في سجونه، وكأن هؤلاء المعتقلين ليسوا بشرًا، بل أرقامًا لا أكثر. أما المسؤولون اللبنانيون الخانعون، التابعون له، فكانوا يطابقون على نكران وجود معتقلين، برغم علمهم المسبق بخطف جنود لبنانيين من بعبدا واليرزة، وبرغم معاناتنا التي كانت تتضاعف في الظلام الدامس، خلف أسوار السجون المظلمة، حيث لا أحد يسمع أنيننا ولا أحد يجيب عن استغاثتنا.
اقتيدنا إلى أقبية المخابرات، حيث تبرد جدرانها عظامنا، وتلتحفنا رائحة الموت والدم، وغُمرنا في خنادق التعذيب، وأُضفينا إلى ألوف المعتقلين الذين يقبعون هناك، جميعهم منسيون، مجهولون، مقيدون بأغلال الظلم والإهانة. كانت اعتقالاتنا تتم بطريقة تعسفية، على حواجز المخابرات، إما عن طريق الخطف العشوائي، أو بالتسليم من قبل أحزاب لبنانية تابعة للنظام، أو لأسباب كيدية، بهدف ابتزاز أهالينا وفرض الفدية.
أُبعث إلى سجون عسكرية وأمنية وفروع أمنية في مدن ومحافظات عدة، أبرزها تدمر وسيدنايا والشيخ مسكين وعدرا، وفي سجون مركزية في حلب وحمص وحماة واللاذقية والسويداء، وأخرى غير معروفة الموقع، تُخفي أوجاعنا وأحلامنا خلف جدران من الأسمنت والحديد، حيث لا صوت يُسمع، ولا من ينقذنا من الموت البطيء.
لقد اعتقلونا لمدة خمس سنوات، في مكان لا يعرفه إلا ذباب الزنازين، وحشرات الزواحف، والجنادب، والهوام، وحدهم القائمون على ذلك المكان هم من يملكون القدرة على الوصول إلينا، بينما لم يخبرونا أو يخبروا أهلنا عن مكان تواجدنا أبدًا. كان الخاطفون يتبعون أسلوبًا قذرًا، سلبوا منا اسمنا، واستبدلوه بأرقام، فعلى سبيل المثال، أصبح علي أبو دهن يُعرف بالمعتقل رقم 13، ذلك الرقم الذي أصبح هو هوية من بقي من أقدارنا، وكتبت على مدخل المعتقل: “الداخل مفقود، والخارج مولود“.
هناك، في زنازين الموت، يعيش المعتقل تحديًا يوميًا، لحظة بلحظة، مع الموت الذي يلاحقنا في كل حين، وكأنه شر لا ينتهي. كنا نتعرض للتعذيب بأبشع الصور، يوميًا، دون استثناء، كأنهم يختبرون مدى قدرتنا على الصمود أمام أهوال الجحيم. كانت أدوات التعذيب تتنوع بين سياط الكهرباء، والصعق بالصاعق، والضرب المبرح، والكي بالنار، والشد بالسلاسل، والجلد الممزق، والضرب على الأعقاب، حتى يتلاشى صوت أنيننا، ويصبح الألم هو لغتنا الوحيدة.
أما غذاؤنا، فكأنه من بقايا جحيم، حبة زيتون عند الترويقة، أو ملعقة صغيرة من لبنة، أو مربى، أو حلاوة، مع رغيف خبز يابس، لا يساوي شيئًا أمام أوجاعنا، ويزيد من إهراق دموعنا، وهي دموع تتسرب من عيوننا، وتنساب على وجوهنا، كأنها دماء حمراء، تذكرنا بأننا أحياء رغم الموت الذي يهددنا في كل لحظة.
لم نحصل عند عودتنا من تلك الجحيم المظلم، على أي شكل من أشكال الدعم أو الرعاية، لا علاج، ولا استشفاء، ولا حتى اعتراف رسمي بمعاناتنا. نحن، الذين عايشنا أهوال السجون، لم يُنظر إلينا إلا كأرقام، وكأننا لا نملك حقًا في الحياة، أو في العدالة. كنا في سجون دولة تدعي أنها “شقيقة“، بينما كانت تتركنا نواجه مصيرنا المجهول، ملقى بين أنياب الظلم والجحيم، بلا رحمة، ولا أمل، ولا أحد يسمع أوجاعنا.